الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)} قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين في قُلوبهم مَرَضٌ} أي: نفاق {أنْ لن يُخْرِجَ اللهُ أضغانَهم} قال الفراء: أي: لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتَهم وبُغْضَهم لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج: أي: لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم. {ولو نشاء لأرَيْناكهم} أي: لعرَّفْناكهم، تقول: قد أرَيْتُكَ هذا الأمر، أي: قد عرَّفْتُك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجَعَلْنا على المنافقين علامة، وهي السّيماء {فلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم} أي: بتلك العلامة {وَلتَعْرَفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ} أي: في فحوى القَوْل، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها، وقول الشاعر: مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا *** ناً، وخَيْرُ الحديثِ ما كانَ لَحْنا تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها. قال المفسرون: وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم. قوله تعالى: {وَلنَبْلُوَنَّكم} أي: وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد {حتَّى نَعْلَم} العِلْم الذي هو عِلْم وجود، وبه يقع الجزاء؛ وقد شرحنا هذا في [العنكبوت: 3]. قوله تعالى: {وَنبْلُوَ أَخبارَكم} أي: نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد. وقرأ أبو بكر عن عاصم: {وَليَبْلُوَنَّكم} بالياء «حتى يَعْلَمَ» بالياء {ويَبْلُوَ} بالياء فيهن. وقرأ معاذ القارئ، وأيوب السختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير». قوله تعالى: {إِن الذين كَفَروا..} [الآية] اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. أحدها: أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات، قاله السدي. والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. والرابع: أنها في قريظة [والنضير]، ذكره الواحدي. قوله تعالى: {ولا تُبْطِلوا أعمالكم} اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال. أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن. والثاني: الشَّكّ والنِّفاق، قاله عطاء. والثالث: الرِّياء والسُّمعة، قاله ابن السائب. والرابع: بالمَنّ، وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية. ونزل قوله {يَمُنُّونَ عليكَ أن أَسْلَموا} [الحجرات: 17]، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب.
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} قوله تعالى: {فلا تَهِنُوا} أي: فلا تَضْعُفوا {وتَدْعوا إِلى السَّلْم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: {إِلى السَّلْم} بفتح السين؛ وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تَدْعُوا الكفار إِلى الصلح ابتداءاً. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصُّلح من المشركين، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحاً، لأنه نهاه عن الصُّلح. قوله تعالى: {وأنتم الأعْلَوْنَ} أي: أنتم أعزُّ منهم، والحُجَّة لكم، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات {واللهُ معكم} بالعَوْن والنُّصرة {ولن يَتِرَكُمْ} قال ابن قتيبة: أي: لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم، يقال وتَرْتَني حَقِّي، أي بَخسْتَنِيه. قال المفسرون: المعنى: لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا. قوله تعالى: {ولا يَسألْكم أموالكم} أي: لن يَسألَكُموها كُلَّها. قوله تعالى: {فيُحْفِكُم} قال الفراء: يُجْهِدكم. وقال ابن قتيبة: يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم {تبخلوا}، يقال: أحْفاني بالمسألة وألحْف: إِذا ألحَّ. وقال السدي: إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا. {ويُخْرِجْ أضغانَكم} وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: {ويُخْرَج} بياء مرفوعه وفتح الراء {أضغانُكم} بالرفع. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رزين، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: {وتَخْرُج} بتاء مفتوحة ورفع الراء {أضغانُكم} بالرفع. وقرأ ابن مسعود، والوليد عن يعقوب: {ونُخْرِج} بنون مرفوعة وكسر الراء {أضغانَكم} بنصب النون، أي يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه فرض عليكم يسيراً. وفيمن يضاف إِليه هذا الإِخراج وجهان: أحدهما: إِلى الله عز وجل. والثاني: البخل، حكاهما الفراء. وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح، لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية: إن يسألْكم جميعَ أموالكم؛ والزكاة لا تنافي ذلك. قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تَدْعَوْنَ لِتُنْفِقوا في سبيل الله} يعني ما فرض عليكم في أمولكم {فمنكم من يَبْخَلُ} بما فُرض عليه من الزكاة {ومَنْ يَبْخَلْ فإنما يَبْخَلُ عن نَفْسه} أي: على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة {واللهُ الغنيُّ} عنكم وعن أموالكم {وأنتم الفقراء} إِليه إلى ما عنده من الخير والرحمة {وإن تتولَّوا} عن طاعته {يَسْتَبْدِلْ قوْماً غيرَكم} أطوعُ له منكم {ثُمَّ لا يكونوا أمثالكم} بل خيراً منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال: أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال: لمّا نزلت {وإِن تتولَّوا يَسْتَبْدِلْ قوْماً غيرَكم} كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [يدَه] على مَنْكِب سلمان، فقال: «هذا وقومُه، والذي نفسي بيده، لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس». والثاني: فارس والروم، قاله عكرمة. والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. والرابع: يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب. والسادس: أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد. والسابع: الأنصار، قاله مقاتل. والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بُعْدٌ [لأنه] لا يقال للملائكة «قَوْمٌ» إِنما يقال ذلك للآدميين، قال: وقد قيل: إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة، وهذا [معنى] ما ذكَرْنا عن مقاتل.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} قوله تعالى: {إِنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبِيناً..} [الآية] سبب نزولها: أنه لمَا نزل قوله: {وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم} [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال. أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير، وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ. قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: «إِنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً» أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذِّراً حتى فتحه الله تعالى. الإِشارة إِلى قصة الحديبية: روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول [له] لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام إِن شاء اللهُ آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة؛ فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب، وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر ب «ذي الحُلَيْفة»، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلَّدها، فعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى. فبلغ المشرِكينَ خروجُه فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب «بَلْدَح» وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم، وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية؛ قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر؛ قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته فقال المسلمون: حَلْ حَلْ، يزجرونها، فأبَتْ فقالوا: خَلأَتْ القصْواءُ والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس. فقال: «ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها»، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه» فرجعَ [بديل] فأخبر قريشاً، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشاً، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن عفان قال: «اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف»، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبداً، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم»، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت الشجرة. وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال. أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار. والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضاً، وبه قال قتادة. والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى. قال: وضَرَبَ يومئذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله، وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال، فصالحه كما ذكرنا في [براءة: 7] فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلمّا كان ب {ضَجَنَان} نزل عليه: {إنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مبيناً}، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون. والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية. والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين. والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك. قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} قال ثعلب: اللام لام «كي»، والمعنى: لكي يجتمع لك [مع] المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى «كي». وغَلِط من قال: ليس. الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ} قال ابن عباس: والمعنى «ما تقدَّم» في الجاهلية، و«ما تأخَّر» ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه. قوله تعالى: {ويُتِمِّ نِعمتَه عليك} فيه أربعة أقوال. أحدها: أن ذلك في الجنة. والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس. والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر حكاه الماوردي. والرابع: بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {ويَهْدِيَكَ صراطاً مستقيماً} أي: ويُثبِّتك عليه؛ وقيل: ويَهدي بك، {ويَنْصُرَكُ اللهُ} على عدوِّك {نَصْراً عزيزاً} قال الزجاج: أي: نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} قوله تعالى: {هو الذي أنزل السَّكينة} أي: السُّكون والطمُّأنينة {في قلوب المؤمنين} لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم، فسلَّموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علامَ نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «أنا عَبْدُ الله ورسوله، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني»، ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلَّموا وأطاعوا. {لِيَزدادوا إيماناً} وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إِيمانُهم. {وللهِ جُنودُ السموات والأرضَ} يريد: أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكُروه. قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ المؤمنين...} الآية. سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله {إِنّا فَتَحْنا لك} قال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. قال مقاتل: فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لَنا عند الله؟ فنزلت {ويُعذِّبَ المنافقين...} الآية. قال ابن جرير: كُرِّرت اللاّمُ في «لِيُدْخِلَ» على اللام في «لِيَغْفِرَ»، فالمعنى: إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف، والمعنى: لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب. قوله تعالى: {عليهم دائرةُ السُّوْء} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بضم السين؛ والباقون بفتحها. قوله تعالى: {وكان ذلك} أي: ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم {عِنْدَ الله} أي: في حُكمه {فَوزاً عظيماً} لهم؛ والمعنى: أنه حكم لهم بالفَوْز، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة. قوله تعالى: {الظانِّين بالله ظَنَّ السَّوْءِ} فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن لله شريكاً. والثاني: أن الله لا ينصُر محمداً وأصحابه. والثالث: أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أويُهْزَمُ ولا يعود ظافراً. والرابع: أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله. والخامس: ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى وقد بيَّنّا معنى «دائرة السّوء في [براءة: 98]. وما بعد هذا قد سبق بيانه [الفتح: 4] [الاحزاب: 45] إِلى قوله: {لِيؤْمِنوا بالله ورسوله} قرأ ابن كثير»، وأبو عمرو: «لِيُؤْمِنوا» بالياء «ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه» كلُّهن بالياء، والباقون: بالتاء؛ على معنى: قل لهم: إِنّا أرسلناك، لتؤمنوا. وقرأ علي بن أبي طالب: وابن السميفع: {ويُعَزٍّزوه} بزاءين وقد ذكرنا في [الأعراف: 157] معنى «ويُعَزِّروه» عند قوله: {وعزَّروه ونصروه}. قوله تعالى: {ويوقِّروه} أي: يعظِّموه ويبجِّلوه. واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده. قوله تعالى: {ويسبِّحوه} هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاةُ له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البُكرة الفجر، وبصلاة الأصيل باقي الصلوات الخمس. قوله تعالى: {إِن الذين يبايعونك} يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان: أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت. والثاني: على أن لا يفِرًّوا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تَفرُّوا ولو متُّم، وسمِّيتْ بَيْعة، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنة، وكان العَقْد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم بايَعوا اللهَ عز وجل، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم. {يَدُ الله فَوْقَ أيديهم} فيه أربعة أقوال. أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير وابن كيسان. قوله تعالى: {فمَنْ نَكَثَ} أي: نقض ما عقده من هذه البَيْعة {فإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسه} أي: يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه {ومن أوفى بما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ} من البَيْعة {فسنُؤتيه} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبان عن عاصم: {فسنُؤتيه} بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بالياء {أجْراً عظيماً} وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجدّ بن قيس، وكان منافقاً.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} قوله تعالى: {سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب} قال ابن إِسحاق: لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفاً من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: {سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب} قال أبو صالح [عن ابن عباس]: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم. قال يونس النحوي: الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء، والدُّول من حنيفة ساكن الواو، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي. فأمّا المخلَّفون فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل. {شَغَلَتْنا أموالُنا وأهلونا} أي: خِفْنا عليهم الضَّيْعة {فاستَغْفِرْ لنا} أي: ادْعُ [اللهَ] أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} أي: ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم. قوله تعالى: {فمَنْ يَمْلِكُ لكم من الله شيئاً إِن أراد بكم ضَرّاً} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {ضُراً} بضم الضاد؛ والباقون: بالفتح. قال أبو علي: «الضَّرُّ» بالفتح: خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ، ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئاً، لم يَقْدِر أحد على دفعه [عنهم]، {بل كان الله بما تعملون خبيرا} من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} أي: توهَّمتم {أنْ لن يَنْقَلِبَ الرَّسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم} أي: لا يَرْجِعون إِلى المدينة، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم، {وزُيِّن ذلك في قُلوبكم} وذلك من تزيين الشيطان. قوله تعالى: {وكنتم قَوْماً بوراً} قد ذكرناه في [الفرقان: 18].
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {سيقول المُخلَّفون} الذين تخلَّفُوا عن الحديبية {إِذا انطلقتم إِلى مَغانِمَ} وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها، فقال هؤلاء المخلَّفون: {ذَرونا نتَّبعْكم}، قال الله تعالى: {يريدون أن يبدِّلوا كلام الله} وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «أن يبدِّلوا كَلِمَ الله» بكسر اللام. وفي المعنى قولان: أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين، قاله مقاتل. وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالِف أمْرَ الله، فيكون تبديلاً لأمره. قوله تعالى: {كذلكم قال اللهُ مِنْ قَبْلُ} فيه قولان. أحدهما: قال إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية، وهذا على القول الأول. والثاني: قال لن تتَّبعونا، وهذا قول مقاتل. {فسيقولون بل تحسُدوننا} أي: يمنعُكم الحسد من أن نُصيب معكم الغنائم.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} قوله تعالى: {ستُدْعَون إِلى قَوْم} المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعََون إِلى جهاد قوم {أُولي بأسٍِ شديدٍ}. وفي هؤلاء القوم ستة أقوال: أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين. والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد. والرابع: أنهم الروم، قاله كعب. والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة، فعَلِمنا أنهم هُمْ. وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: {تُقاتِلونهم أو يُسْلِمُونَ}، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية، وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم، وإِن أُريدَ بها فارس والروم، فعمر دعا إِلى قتالهم، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على صِحَّة إِمامتها إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب. قوله تعالى: {فإن تُطيعوا} قال ابن جريج: فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر، {وإِن تتولَّوا} عن طاعتهما {كما تولَّيتم} عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إِلى الحديبية. وقال الزجاج: المعنى: إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم اللهُ أجْراً حسناً، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً. قوله تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ} قال المفسرون: عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية. قوله تعالى: {يُدْخِلْه جناّتٍ} قرأ نافع، وابن عامر: «نُدْخِلْه» و«نُعْذِّبْه» بالنون فيهما؛ والباقون: بالياء.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله: {لقد رضِيَ اللهُ عن المؤمِنين} وقد ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفاً، وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان، لقوله: {لقد رَضِيَ اللهُ عن المؤمنين إذ يُبايعونك تحت الشجرة} روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البَيْعةَ البَيْعةَ، نَزَل روح القُدُس قال: فثُرنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايَعْناه، وقال عبد الله بن مغفَّل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقُطِعتْ. قوله تعالى: {فَعَلِمَ ما في قُلوبهم} أي: من الصِّدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مُخْلِصون {فأنزل السَّكينة عليهم} يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا {وأثابهم} أي: عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره {فَتْحاً قريباً} وهو خيبر، {ومَغانِمَ كثيرةً يأخذونها} أي: من خيبر، لأنها كانت ذات عَقار وأموال، فأمّا قوله بعد هذا: {وعَدَكم اللهُ مَغانِمَ كثيرة تأخذونها} فقال المفسرون: هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة. {فعجَّل لكم هذه} فيها قولان. أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور. والثاني: أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس. قوله تعالى: {وكَفَّ أيديَ الناس عنكم} فيهم ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك، قاله قتادة. والثاني: أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب، فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء: كانت أسد وغطفان [مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلَّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همَّت أسد وغطفان] باغتيال [أهل] المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك. والثالث: أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره. ففي قوله «عنكم» قولان. أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون. والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو مقتضى قول قتادة. {ولِتَكون آيةً للمؤمنين} في المشار إليها قولان. أحدهما: أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم. والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين، في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به. قوله تعالى: {ويَهْدِيَكم صراطاً مستقيماً} فيه قولان. أحدهما: طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه، وهذا على القول الأول. والثاني: يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة. قوله تعالى: {وأُخرى} المعنى: وعدكم الله مَغانمَ أُخرى؛ وفيها أربعة أقوال. أحدها: أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس {وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها} قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد. والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد. والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة. قوله تعالى: {قد أحاط اللهُ بها} فيه قولان. أحدهما: أحاط بها عِلْماً أنها ستكون من فُتوحكم. والثاني: حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها. قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا} هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة؛ {والذين كفروا} مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى لو قاتلوكم يومَ الحديبية {لولَّوُا الأدبار} لِما في قلوبهم من الرُّعب {ثم لا يجدون وليّاً} لأن لله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه. و«سُنَّةَ الله» منصوبة على المصدر، لأن قوله: «لولَّوُا الأدبار» معناه: سَنَّ اللهُ عز وجل خِذلانهم سُنَّةً، وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله: {كتابَ اللهِ عليكم} [النساء: 24] وقوله: {صُنْع اللهِ} [النمل: 88]. قوله تعالى: {وهُو الذي كَفَّ أيديَهم عنكم} روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهله مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فأخذهم سِلْماً، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية. وروى عبد الله بن مغفَّل قال: «كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابّاً، فثاروا في وُجوهنا، فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:» هل جئتم في عهد؟ «أو» هل جعل لكم أحد أماناً؟ «قالوا: اللهم لا، فخلَّى سبيلهم، ونزلت هذه الآية» وذكر قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خَيْلاً فأتَوه باثني عشر فارساً من الكفار، فأرسلهم. وقال مقاتل: خرجوا يقاتِلون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم. وفي بطن مكة ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس. والثاني: وادي مكة، قاله السدي. والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأمّا «مكة» فقال الزجاج: «مكة» لا تنصرف لأنها مؤنَّثة، وهي معرفة، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق «بكة»، والميم تُبدل من الباء، يُقال: ضَرْبة لازم، ولازب، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امْتَكَّ الفَصيل مافي ضرع النّاقة: إِذا مَصَّ مَصّاً شديداً حتى لا يُبْقي فيه شيئاً. فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها؛ قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكلتَه. وقال ابن فارس: تَمَكَّكْتُ العظم: إِذا أخرجتَ مُخَّه؛ والتمكُّكُ: الاستقصاء؛ وفي الحديث: «لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم». وفي تسمية «مكة» أربعة أقوال. أحدها: لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها، وذلك من قول العرب: امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة. والثاني: أنها سمِّيتْ (مكة) من قولك: بَكَكْتُ الرجُل: إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها، أي تُهلكه وتُنْقِصه، وأنشدوا: يا مَكَّةُ، الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا *** ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكَّا والثالث: [أنها] سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها. والرابع: لِقلَّة الماء بها. وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في [آل عمران: 96]. قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أن أَظفركم عليهم} أي: بهم؛ يقال: ظَفِرْتُ بفلان، وظَفِرْتُ عليه. قوله تعالى: {وكان اللهُ بما تعلمون بصيراً} قرأ أبو عمرو: {يعملون} بالياء والباقون: بالتاء.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} قوله تعالى: {هُمُ الذين كفَروا} يعني أهل مكة {وصدًّوكم عن المسجد الحرام} أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم {والهَدْيَ} قال الزَّجاج: أي: وصدُّوا الهدي {معكوفاً} أي: محبوساً {أن يبلُغَ} أي: عن أن يبلُغَ {مَحِلَّه} قال المفسرون: «مَحِلّه» مَنْحَره، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه {ولولا رجالٌ مؤمِنون ونساءٌ مؤمنات} وهم المستَضعفون بمكة {لم تَعْلَموهم} أي: لم تعرفوهم {أن تطؤُوهم} بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم، {فتُصيبَكم منهم مَعَرَّةٌ} وفيها أربعة أقوال. أحدهما: إِثم، قاله ابن زيد. والثاني: غُرم الدِّيَة، قاله ابن إِسحاق. والثالث: كفّارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب. والرابع: عيب بقتل مَنْ هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتُكم من عامكم هذا؛ وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم {لِيُدْخِلَ اللهُ في رحمته} أي: في دينه {من يشاء} من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح {لو تزيَّلوا} قال ابن عباس: لو تفرَّقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميَّزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين {لعذَّبْنا الذين كفروا} بالقتل والسَّبْي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: «لعذَّبْنا» جواب لكلامين. أحدهما: «لولا رجال»، والثاني: «لو تزيَّلوا» وقوله {إِذ جَعَل} من صلة قوله {لعذَّبْنا}. والحميَّة: الأنَفَة والجَبَريَّة. قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، فقالوا: يدخلون علينا [وقد قتلوا] أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك، {فأنْزَلَ اللهُ سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم. وقيل: الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر «الرحمن الرحيم» وذِكْر «رسول الله» صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {وألزَمَهم كَلِمةَ التَّقوى} فيه خمسة أقوال. أحدهما: «لا اله إلا الله»، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلى هذا يكون معنى: «ألزَمَهم»: حَكَمَ لهم بها، وهي التي تَنفي الشِّرك. والثاني: «لا إِله إلا الله والله أكبر»، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين. والثالث: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: «لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله»، قاله عطاء الخراساني. والخامس: «بسم الله الرحمن الرحيم»، قاله الزهري. فعلى هذا يكون المعنى: أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح، ألزمه اللهُ المؤمنين. {وكانوا أحقَّ بها} من المشركين {و} كانوا {أهلَها} في عِلْم الله تعالى.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} قوله تعالى: {لقد صَدَقَ اللهُ رسولَه الرُّؤيا بالحق} قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} إِلى قوله {لا تَخافونَ} ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟! فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل. وفي قوله: {إِنْ شاء اللهُ} ستة أقوال. أحدها: أن «إن» بمعنى «إذ»، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه استثناء من الله، وقد عَلِمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون، قاله ثعلب؛ فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء. والثالث: أن المعنى: لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إِن أمركم اللهُ به، قاله الزجاج. والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي. والخامس: أنه على وجه الحكاية لِما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلاً يقول {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين}، حكاه القاضي أبو يعلى. والسادس: أنه يعود إِلى الأمن والخوف، فأمّا الدُّخول، فلا شَكَّ فيه، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {آمنين} من العَدُوِّ {محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين} من الشَّعر {لا تَخافونَ} عدُوّاً. {فعَلِم ما لم تَعْلَموا} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح. والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحاً. والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك. قوله تعالى: {فجَعَلَ مِنْ دون ذلك فتحاً قريباً} فيه قولان. أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد، والزهري، وابن إِسحاق وقد بيَّنّا كيف كان فتحاً في أول السورة. وما بعد هذا مفسر في [براءة: 33] إِلى قوله: {وكفى بالله شهيداً} وفيه قولان. أحدهما: أنه شَهِدَ له على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه، قاله الحسن. والثاني: كفى به شهيداً أن محمداً رسوله قاله مقاتل.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} قوله تعالى: {محمدٌ رسولُ الله} وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: «محمداً رسولُ الله» بالنصب فيهما. قال ابن عباس شَهِد: له بالرِّسالة. قوله تعالى: {والذين معه} يعني أصحابه والأشدّاء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل أَشْدِدَاءُ، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدّالَين تحركتا، فأُدغمت الأولى في الثانية، [ومثله] {مَنْ َيْرَتَّد منكم} [المائدة: 54]. قوله تعالى: {رُحَماءُ بينَهم} الرُّحَماء جمع رحيم، والمعنى: أنهم يُغْلِظون على الكفار، وَيتوادُّون بينَهم {تَراهم رُكَّعاً سُجَّداً} يَصِفُ كثرة صَلاتهم {يبتغون فَضْلاً من الله} وهو الجنة {ورِضواناً} وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال: «والذين معه» أبو بكر «أشداء على الكفار» عمر «رحماء بينهم» عثمان «تراهم رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ بن أبي طالب «يبتغون فضلاً من الله ورضواناً» طلحة والزبير وعبدالرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة. قوله تعالى: {سِيماهم} أي: علامتهم {في وُجوههم}، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان. أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السَّمْت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة؛ وقال في رواية مجاهد: أما إِنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه، وكذلك قال مجاهد: ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع. والثاني: أنه نَدَى الطَّهور وتَرَى الأرض، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية: لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض. والثالث: أنه السُّهوم، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارّاً. قال الحسن البصري: «سيماهم في وجوههم»: الصُّفرة؛ وقال سعيد بن جبير: أثر السهر؛ وقال شمر بن عطية: هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل. والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان. أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضاً يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. والثاني: أنهم يُبْعَثون غُراً محجَّلين من أثر الطَّهور، ذكره الزجاج. قوله تعالى: {ذلك مَثَلُهم} أي: صِفَتُهم والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {في التوراة} هذا. فأما قوله: {ومَثَلُهم في الإِنجيل} ففيه ثلاثة أقوال. أحدها: أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل. قال مجاهد: مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد. والثاني: أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة، فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله: {كزرعٍ}، وهذا قول الضحاك، وابن زيد. والثالث: أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأهَُ} وقرأ ابن كثير، وابن عامر: [«شَطَأَهُ» بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {شطْأه} بسكون الطاء. وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وابن أبي عبلة]: {شَطاءَهُ} بفتح الطاء [وبالمد] والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة: أي فِراخه يقال أشطأ الزَّرعُ فهو مُشْطِئ: إِذا أفرخ {فآزره} أي: ساواه، وصار مثل الأُمّ. وقرأ ابن عامر: «فأَزَرَهُ» مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ. وقال ابن قتيبة: آزره أعانه وقوّاه {فاستغلظ} أي: غَلُظ {فاستوى على سُوقِهِ} وهي جمع «ساق»، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عز وجل للنبيَّ صلى الله عليه وسلم إِذ خرج وحده، فأيَّده بأصحابه، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: على «سُؤْقه» مهموزة؛ والباقون بلا همزة. وقال قتادة: في الإِنجيل: سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع. وفيمن أُريدَ. بهذا المثَل قولان. أحدهما: أن أصل الزَّرع: عبد المطلب «أخرج شطأه» أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم {فآزره}: بأبي بكر {فاستغلظ}: بعمر {فاستوى}: بعثمان {على سوقه}: عليّ بن أبي طالب، رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن المراد بالزَّرع محمد صلى الله عليه وسلم «أخرج شطأه» أبو بكر «فآزره» بعمر «فاستغلظ» بعثمان «فاستوى على سوقه»: بعليّ {يُعْجِبُ الزُّرّاعَ}: يعني المؤمنين «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» وهو قول عمر لأهل مكة: لا يُعْبَدُ اللهُ سِرَاً بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن. قوله تعالى: {لِيَغيظَ بهم الكُفّار} أي: إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم. الكُفّار. وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إِدريس: لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار، يعني الرّافضة، لأن الله تعالى يقول: «لِيَغيظَ بهم الكُفّار». قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً} قال الزجاج: في «مِنْ» قولان. أحدهما: أن يكون تخليصاً للجنس من غيره، كقوله {فاجتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان} [الحج: 30]، ومثله أن تقول: أَنْفِقْ من الدَّراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس. قال ابن الأنباري: معنى الآية: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس، أي من جنس الصحابة. والثاني: أن يكون [هذا] الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} قوله تعالى: {يا أيَّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بينَ يَدَيَ الله ورسولِه} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أن رَكْباً من بني تميم قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاعَ ابنَ معبد، وقال عمر: أَمِّرِ الأقرعَ بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إِلا خِلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتُها فنزل قوله: {يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بين يَدَيِ اللهِ ورسولِه} إلى قوله: {ولَوْ أنَّهم صَبَروا} فما كان عمرُ يسْمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [بعد هذه الآية] حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير. والثاني: أن قوماً ذَبحوا قبل أن يُصَلِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحر، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيدوا الذَّبح، فنزلت الآية، قاله الحسن. والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك، وقدَّم فيه، قاله قتادة. والرابع: [أنها] نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّنَّة. وروى العوفي عنه قال: نُهو أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه. وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال: لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة: يقال فلانٌ يُقَدِّم بين يَدَيِ الإِمام وبين يَدَي أبيه، أي يُعجِّل بالأمر والنهي دونه. فأمّا {تُقدِّموا} فقرأ ابن مسعود وأبو هريرة، وأبو رزين، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال؛ وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال. قال الفراء: كلاهما صواب، يقال: قَدَّمْتُ وتَقَدَّمْتُ؛ وقال الزجاج: كلاهما واحد؛ فأمّا «بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ» فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه؛ فالمعنى: لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير. قوله تعالى: {لا تَرْفَعوا أصواتَكم} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة. والثاني: [أنها] نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصوته، قاله مقاتل. قوله تعالى: {ولا تَجهر له بالقَوْلِ} فيه قولان. أحدهما: أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة، قاله الأكثرون. والثاني: لا تَدْعوه باسمه: يا محمد، كما يدعو بعضُكم بعضاً، ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل. قوله تعالى: {أن تَحْبَطَ} قال ابن قتيبة: لئلا تَحْبَطَ. وقال الأخفش: مَخافة أن تَحْبَطَ. قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المَنْزِلة، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر. قوله تعالى: {إِن الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم} قال ابن عباس: لمّا نزل قوله: «لا ترفعوا أصواتكم» تألَّى أبو بكر أن لا يكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِلاّ كأخي السّرار، فأنزل اللهُ في أبي بكر: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم}، والغَضُّ: النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله: {قُلْ للمؤمنين يَغِضُّوا} [النور: 30]. {أولئك الذين امْتَحَنَ اللهُ قلوبَهم} قال ابن عباس: أخلصها {للتقوى} من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إيّاها فاصطفاها وأخلصها للتَّقوى.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} قوله تعالى: {إِنَّ الذين ينادونك مِنْ وراءِ الحُجُرات} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: «أن بني تميم جاؤوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادَوْا على الباب: يا محمد اخرُج إِلينا، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن، فخرج وهو يقول:» إنما ذلكم الله «، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال:» ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ، ولكن هاتوا «فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثابتَ بن قيس، فأجابه، وقام شاعرُهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية»، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين. وقال ابن اسحاق: نزلت في جُفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، [وقيس بن عاصم المنقري]، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليَّان، والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن وكيع. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة إِلى بني العنبر، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا: ينادون يا محمد اخْرُج إِلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثالث: أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض: انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، [قاله زيد بن أرقم]. فأمّا «الحجرات» فقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو العالية، وابن يعمر، [وأبو جعفر وشيبة]: بفتح الجيم؛ وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة؛ وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجُرات والرُّكبات، وربما خفَّفوا فقالوا: «الحُجْرات»، والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة. واحد الحُجُرات حُجرة، مثل ظُلْمة وظُلُمات. قال المفسرون: وإنما نادَوا من وراء الحُجرات، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله. قوله تعالى: {ولو أنَّهم صَبَروا حتى تخْرُجَ إِليهم لكان خيراً لهم} قال الزجاج: أي: لكان الصَّبر خيراً لهم. وفي وجه كونه خيراً لهم قولان. أحدهما: لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ، قاله مقاتل. والثاني: لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {واللهُ غفورٌ رحيمٌ} أي: لمن تاب منهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} قوله تعالى: {إِن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا} نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعضَ الطريق، ثم خاف فرجع فقال: إِنهم قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البَعْثَ إِليهم، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرتُ القصد في كتاب «المُغني» وفي «الحدائق» مستوفاة، وذكرتُ معنى {فتبيَّنوا} في سورة [النساء: 94]، والنَّبأ: الخبر، و«أنْ» بمعنى «لئلاً»، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، {فتُصْبِحوا على ما فَعَلْتم} من إِصابتهم بالخطأِ {نادمين}. ثم خوَّفهم فقال: {واعْلَموا أن فيكم رسولَ اللهَ} أي: إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم، ثم قال: {لو يُطِيعُكم في كثيرٍ من الأمر} أي: ممّا تخبرونه فيه بالباطل {لَعَنِتُّم} أي: لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ. قال ابن قتيبة: وهو الضَّرر والفساد. وقال غيره: هو الإِثم والهلاك وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا: ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم؛ ثم خاطب المؤمنين فقال: {ولكنَّ الله حَبَّب إِليكم الإِيمان} إِلى قوله: {والعِصيانَ}، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال: {أولئك هم الرّاشدون} أي: المهتدون إِلى محاسن الأُمور، {فَضْلاً من الله} قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلاً، أي: للفضل والنّعمة.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} قوله تعالى: {وإِنْ طائفتان....} الآية، في سبب نزولها قولان. أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أتيتَ عبدَ الله ابن أُبيٍّ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون، فلمّا أتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: إِليكَ عنِّي، فوالله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم {وإِن طائفتان...} الآية. وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ، وعبدُ الله بن رواحة، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا. فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في «المغني» و«الحدائق». وقال مقاتل: وقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أف، وأمسك على أنفه. فقال عبد الله بن رواحة: واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف، ونزلت هذه الآية. والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما، فقال أحدهما: لآخذنَّ حقي عَنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، قاله قتادة. وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج؛ اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «اقتتلا» على فعل اثنين مذكَّرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة {اقتتلتا} بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي {فأصلِحوا بينهما} بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عز وجل والرضى بما فيه لهما وعليها {فإن بغت إِحداهما} طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إَلى الصلح، {فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ} أي: تَرْجِع {إِلى أمر الله} أي: إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به. قوله تعالى: {وأَقسِطوا} أي: اعدلوا في الإِصلاح بينهما. قوله تعالى: {إِنما المؤمنون إِخوة} قال الزجاج: إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواءَ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب. قوله تعالى: {فأصِلحوا بين أخويكم} قرأ الأكثرون «بين أخويكم» بياء على التثنية. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، [وقتادة]، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «بين إِخوتكم» بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: «بين إخوانكم» بالنون وألف قبلها. قال قتادة: ويعني بذلك الأوس والخزرج.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} قوله تعالى: {لا يَسْخَر قومٌ من قوم} هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب؛ فأما أولها: إلى قوله تعالى: {خيراً منهم} فنزلت على سبب وفيه قولان. أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدُّنُوَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً، فجلس مُغْضَباً ثم قال للرجل: من أنت؟ قال أنا فلان. فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه ونزل قوله تعالى: {لا يَسْخَر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم}، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأَوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل. وأما قوله تعالى {ولا نساءٌ من نساء} فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيَّرن أًمَّ سَلَمة بالقِصَر، فنزلت هذه [الآية]، قاله أنس بن مالك. وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قِصَر أًمِّ سَلَمة. والثاني: أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إِحداهما للأخرى: انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: «أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديَّين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون، وإِن عمِّي موسى، وإن زوجي محمد» فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وأما قوله تعالى {ولا تَلْمِزوا أنفُسَكم ولا تَنابزوا بالألقاب} فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه، فقيل له: يا رسول الله: إِنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: «ولا تَنابزوا بالألقاب»، قاله أبو جبيرة بن الضحاك. والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت: «ولا تَنابزوا بالألقاب»، قاله الحسن. والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام، فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي فنزلت فيهما {ولا تَلمزوا أنفُسكم ولا تَنابزوا بالألقاب} قاله مقاتل. وأمّا التفسير، فقوله تعالى: {لا يَسخر قومٌ من قوم} أي: لا يستهزئ غنيٌّ بفقير، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به، عسى أن يكون عند الله خيراً [منه]. وقد بيَّنّا في [البقرة: 54] أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: «ولا نساءٌ من نساء» و«تَلْمِزوا» بمعنى تَعيبوا، وقد سبق بيانه [التوبة: 58]. والمراد بالأنفُس هاهنا: الإِخوان. والمعنى: لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم، والتنابز: التفاعل من النَّبْز، وهو مصدر، والنَّبَز الاسم. {والألقاب} جمع لقب، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به. قال ابن قتيبة: {ولا تَنابزوا بالألقابَ} أي: لا تتداعَوْا بها. و«الألقاب» و«الأنْباز» واحد، ومنه الحديث: «نَبْزُهم الرافضة» أي: لقبُهم. وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال. أحدها: تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام كقوله لليهودي إِذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. وبه قال الحسن، وسعيد ابن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي. والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة. والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني؛ يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد. قال: أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادَى به، أو يُعَدُّ ذمَاً له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً، فلا تُكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب، ولخالد سيف الله، ونحو ذلك. وقوله {بئسَ الاسمُ الفُسوق} أي: تسميتُه فاسقاً أو كافراً وقد آمن، {ومن لم يَتُب} من التَّنابُز {فأولئك هم الظالمون} وفيه قولان. أحدهما: الضارُّون لأنْفُسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس. والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً من الظَّنِّ} قال ابن عباس: نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به [سوءاً]، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً. وقال الزجاج: هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً، فأمّا أهل السوء والفسق، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ؛ والظَّنُّ على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح ومندوب إِليه، فأمّا المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حُسْنُ الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحُكم عليه واجب، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستهلَكات، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون. فأمّا الظن المباح: فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً، أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه، وإن فعله كان مباحاً، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا» وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة فلا ينبغي له أن يحقِّقه. وأما الظن المندوب إِليه: فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه. فأمّا ما روي في الحديث: «احترِسوا من الناس بسوء الظن» فالمراد: الإحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق. قوله تعالى: {إِنَّ بعض الظَّنِّ إِثم} قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به. قوله تعالى: {ولا تَجَسَّسوا} وقرأ أبو رزين، والحسن، والضحاك، وابن سيرين، وأبو رجاء، وابن يعمر: بالحاء. قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التَّبحُّث ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع لحديث القوم. قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم؛ فالمعنى: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطَّلع عليه إِذ ستره الله. وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: إِنا نُهينا عن التجسس، فإن يَظهرْ لنا شيء نأخذْه به. قوله تعالى: {ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضاً} أي: لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه. وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره»، قال: أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول قال: «إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فيه فقد بهتَّه». ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً فقال: {أيُحِبُّ أحدُكم أن يأكل لحم أخيه مَيْتاً} وقرأ نافع «ميّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة. قوله تعالى: {فكرِهتموه} وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري {فكُرّهتموه} برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفراء: أي: وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ «فكُرّهتموه» أي: فقد بُغِّض إِليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً، فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً. قوله تعالى: {واتَّقوا الله} أي: في الغِيبة {إِن الله توّابٌ} على من تاب {رحيمٌ} به.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} قوله تعالى: {يا أيُّها النَّاس إِنّا خلقناكم من ذكر وأنثى} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقولِه في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله: {لا يسخرْ قومٌ من قوم} [الحجرات: 11]. والثاني: أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فصَعِد على ظهر الكعبة فأذَّن، وأراد أن يُذِلَّ المشركين بذلك، فلما أذَّن قال عتاب بن أَسِيد: الحمدُ لله الذي قبض أسيداً قبل اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسودِ مؤذِّناً؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يَكْرَهِ اللهُ شيئاً يغيِّره. وقال أبو سفيان: أمّا أنا فلا أقول شيئاً، فإنِّي إن قُلتُ شيئاً لَتْشْهَدَنَّ عليَّ السماءُ، ولَتُخْبِرَنَّ عنِّي الأرض، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. والثالث: أن عبداً أسود مرض فعاده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قُبض فتولَّى غسله وتكفينه ودفنه، فأثَّر ذلك عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة. فأمّا المراد بالذَّكَر والأُنثى، فآدم وحوَّاء. والمعنى: إِنكم تتساوَوْن في النسب؛ وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأمّا الشُّعوب، فهي جمع شَعب. وهو الحيُّ العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب: الموالي، وبالقبائل: العرب. وقال أبو رزين: الشعوب أهل الجبال الذين لا يَعْتَزُون لأحد، والقبائل: قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل: إِن القبائل هي الأصول، والشُّعوب هي البُطون التي تتشعَّب منها، وهذا ضد القول الأول. قوله تعالى: {لِتَعارفوا} أي: ليَعْرِفَ بعضُكم بعضاً في قُرب النسب وبُعده. قال الزجاج: المعنى جعلْناكم كذلك لتَعارفوا، لا لتَفاخروا. ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم. وقرأ أًبيُّ بن كعب. وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: «لِتَعْرِفوا» بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: {لِتَّعارَفوا} بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك، والأعمش: «لِتتعرَّفوا» بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غيرَ ألف. قوله تعالى: {إِنَّ أكرمكم} وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء: «أنَّ» بفتح الهمزة قال الفراء: من فتح «أنَّ» فكأنه قال: لتعارفوا أنَّ الكريمَ التَّقيُّ ولو كان كذلك لكانت «لِتَعْرِفوا»، غير أنه يجوز «لِتَعارفوا» على معنى: ليعرِّف بعضُكم بعضاً أن أكرمكم عند الله أتقاكم «.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} قوله تعالى: {قالت الأعراب آمَنّا} قال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد ابن خزيمة. ووصف غيره حالهم، فقال: قَدِموا المدينةَ في سنة مُجْدِبة، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلَوا أسعارهم، وكانوا يُمنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، ولَمْ نُقاتِلْك، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار [وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة (الفتح) وكانوا يقولون: آمنا بالله ليأمنوا على أنفُسهم]، فلما استُنفروا إِلى الحديبية تخلَّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إِذا مرَّت بهم سريَّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الحديبية استنفرهم فلم يَنْفِروا معه. قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تؤْمِنوا} أي: لَمْ تصدّقوا {ولكن قولوا أسلمنا} قال ابن قتيبة: أي اسْتَسلمنا من خوف السيف، وانْقَدْنا. قال الزجاج: الإِسلام: إِظهار الخُضوع والقَبول لِما أتى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يُحْقَن الدَّم. فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإِيمان، فأخْرَجَ اللهُ هؤلاء من الإِيمان بقوله: {ولمّا يَدْخُل الإِيمانُ في قُلوبكم} أي: لَمْ تُصَدِّقوا، إِنما أسلمتم تعوُّذاً من القتل. وقال مقاتل: «ولمّا» بمعنى «ولم» يدخُل التصديقُ في قلوبكم. قوله تعالى: {وإِن تُطيعوا اللهَ ورسولَه} قال ابن عباس: إِن تُخْلِصوا الإِيمان {لا يألِتْكُم} قرأ أبو عمرو: {يَألِتْكُم} بألف وهمز؛ وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة: وقرأ الباقون: «يَلِتْكُم» بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألَتَ يألِتُ. وقراءة الباقين من لاتَ يَلِيتُ، قال الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج: معناهما واحد. والمعنى: لا يَنْقُصكم وقال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات: ألَتَ يألِتُ، تقديرها: أفَكَ يأفِكُ، وألاتَ يُلِيتُ تقديرها: أقال يُقِيلُ، ولاتَ يَلِيتُ، قال رؤبة: وليلةٍ ذاتِ نَدىً سَرَيْتُ *** ولم يَلِتْنِي عن سُراها لَيْتُ قوله تعالى: {مِنْ أعمالكم} أي: من ثوابها. ثم نعت الصادقين في إِيمانهم بالآية التي تلي هذه. ومعنى: {يَرتابوا} يَشُكُّوا. وإِنما ذكر الجهاد، لأن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فرضاً في ذلك الوقت، {أولئك هم الصادقون} [في إِيمانهم، فلمّا نزلت هاتان الآيتان أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون] فنزلت [هذه الآية]. قوله تعالى: {قُلْ أتُعَلِّمون اللهَ بدينكم} و«علَّم»، بمعنى «أعلم»، ولذلك دخلت الباء في قوله: {بدينكم} والمعنى: أتُخبرون [اللهَ] بالدِّين الذي أنتم عليه؟!، أي: هو عالِمٌ بذلك لا يحتاج إِلى أخباركم؛ وفيهم نزل قوله تعالى: {يَمُنُّون عليك أن أَسْلموا} قالوا: أَسْلَمْنا ولم نُقاتِلْكَ، [والله أعلم].
|